العيون لا تبصر و اللسان لا ينطق و الأقدام لا تسعى و الأيدي لا تعمل. لكن الآذان صاغية و الأذهان واعية.
أعرف سكون الليل أكثر من غيري. ففي سكون الليل تخفت الأصوات و تهدأ النفوس. في سكون الليل تخلد أذناي للراحة و تناجي النفس، تلك الفترة، أولئك الزوار الذين اعتدت تحياتهم حين يهجع الناس. هم يونسون وحشتي رغم أنهم لا يوجهون إلي الحديث. لكنهم أيضا لا يتحدثون عني بما أكره. صرير الأبواب حين ينصرف البعض إلى صلاة الصبح. و حمحماتهم و هم يخرجون. و تسبيحهم و هم يعودون. و أصوات خطوات المارة المبكرين. و قبل ذلك أصوات حشرات تسبح الله طول الليل بلغاتها. أحيانا كثيرة لا أدرك حلول ليل النوم إلا بأصواتها.
أنا من أهل الصحراء. مولود قبل دخول الدولة بسنوات قليلة. كانت أسرتي تسكن البادية حينها. لكن الدولة حملتنا في الشاحنات إلى مدينة العيون. و شهدنا بناء المدينة لحظة بلحظة.
بعد عشر سنوات من ذلك تعرضت و أنا في عز شبابي لحادثة فقدت على إثرها الإحساس بكل جسدي. و لا أزال على تلك الحالة كل تلك السنوات التي مرت. مرات عديدة إنتابني إحساس بالبكاء أسفا لحالي. لكن عيني على مايبدو تعجزان عن إفراز الدموع حيث أن أحدا من أهلي لم يعلق على بكائي. و كثيرة هي المرات التي تمنيت فيها أن أغادر المكان و الأهل لكني عدمت الوسيلة. خلال هذه المدة أحببت أناسا و كرهتهم بعد ذلك. و كرهت آخرين ثم أحببتهم.
دليلي الوحيد على أني لا أزال من أهل الدنيا سماعي حديث الناس في مصريتنا التي تتشارك نافذتي و نافذتها نفس الظواية. أحيانا أيضا أتابع الأخبار و المسلسلات و الأفلام لأن التلفاز موجود في المصرية. في الماضي كان والدي يشغل المذياع في المصرية و كنت أتابع معه دون أن يدري إذاعة لندن. بعض الأصوات التي كنت أسمعها في إذاعة لندن صرت أسمعها في قناة الجزيرة.
مصريتنا تحضر إلي العالم الذي أعجز عن الذهاب إليه. مصريتنا جعلتني أعيش الأحداث و أشارك الناس همومهم. مصريتنا تذكرني بتلك اللقطة في الأفلام الأجنبية حين يأتي المتدين المسيحي و يقف خلف نافذة الإعتراف ليصرح للكاهن عبر القضبان بخطاياه. الجميع يصرحون على مسمع مني بما يحلو لهم. لماذا لا يحذرون أن أسمعهم؟ أسمع الكثير عبر الظواية.
كلام أفراد عائلتي و أقاربهم الذين لم أعرف بعضهم سابقا و أصدقاؤهم. غريب هو الإنسان كيف يتبدل و يتلون. حديث الشخص إلى شخص آخر ليس هو حديثه إلى اثنين ثم إلى ثلاثة. كلما زاد عدد المتحدثين زاد هامش الكتمان و قلت الصراحة. طبعا هم لم يعودوا يفكرون أنني قد أكون مستمعا إليهم. كيف ينتبهون و قد استطاعوا أن ينسوا أن الله يسمعهم.
مشكل الصحراء و مشكل البطالة و مشكل فلسطين و العراق و أفغانستان و مشاكل الشباب و الطفولة و صراع الثقافات و الأجيال. أنا إنسان واع بعصري رغم سكوني. هل أعود يوما إلى الدنيا لأحدث أهلها عن أحداثها؟ لقد تعلمت الكثير في رحلة الصبر على التهميش و الإقصاء. لقد كانت لي آراء كثيرة قد تكون مفيدة لكن عجز المجتمع عن تمكيني من البوح بها.
حين أثرثر لنفسي أتخيل بعض الذين أعرف أصواتهم. أحدثهم بما يفهمون لأني أعلم ما يفهمون. و دائما أقنعهم بآرائي و أهون عليهم. لكني أسمعهم بعد ذلك عبر الظواية و أدرك أنهم نسوا ما حدثتهم به. أو لعلهم لم يقتنعوا حقا.
لكني سأستمر في ثرثرتي التي لا أملك غيرها. و كل ينفق مما عنده.
أعرف سكون الليل أكثر من غيري. ففي سكون الليل تخفت الأصوات و تهدأ النفوس. في سكون الليل تخلد أذناي للراحة و تناجي النفس، تلك الفترة، أولئك الزوار الذين اعتدت تحياتهم حين يهجع الناس. هم يونسون وحشتي رغم أنهم لا يوجهون إلي الحديث. لكنهم أيضا لا يتحدثون عني بما أكره. صرير الأبواب حين ينصرف البعض إلى صلاة الصبح. و حمحماتهم و هم يخرجون. و تسبيحهم و هم يعودون. و أصوات خطوات المارة المبكرين. و قبل ذلك أصوات حشرات تسبح الله طول الليل بلغاتها. أحيانا كثيرة لا أدرك حلول ليل النوم إلا بأصواتها.
أنا من أهل الصحراء. مولود قبل دخول الدولة بسنوات قليلة. كانت أسرتي تسكن البادية حينها. لكن الدولة حملتنا في الشاحنات إلى مدينة العيون. و شهدنا بناء المدينة لحظة بلحظة.
بعد عشر سنوات من ذلك تعرضت و أنا في عز شبابي لحادثة فقدت على إثرها الإحساس بكل جسدي. و لا أزال على تلك الحالة كل تلك السنوات التي مرت. مرات عديدة إنتابني إحساس بالبكاء أسفا لحالي. لكن عيني على مايبدو تعجزان عن إفراز الدموع حيث أن أحدا من أهلي لم يعلق على بكائي. و كثيرة هي المرات التي تمنيت فيها أن أغادر المكان و الأهل لكني عدمت الوسيلة. خلال هذه المدة أحببت أناسا و كرهتهم بعد ذلك. و كرهت آخرين ثم أحببتهم.
دليلي الوحيد على أني لا أزال من أهل الدنيا سماعي حديث الناس في مصريتنا التي تتشارك نافذتي و نافذتها نفس الظواية. أحيانا أيضا أتابع الأخبار و المسلسلات و الأفلام لأن التلفاز موجود في المصرية. في الماضي كان والدي يشغل المذياع في المصرية و كنت أتابع معه دون أن يدري إذاعة لندن. بعض الأصوات التي كنت أسمعها في إذاعة لندن صرت أسمعها في قناة الجزيرة.
مصريتنا تحضر إلي العالم الذي أعجز عن الذهاب إليه. مصريتنا جعلتني أعيش الأحداث و أشارك الناس همومهم. مصريتنا تذكرني بتلك اللقطة في الأفلام الأجنبية حين يأتي المتدين المسيحي و يقف خلف نافذة الإعتراف ليصرح للكاهن عبر القضبان بخطاياه. الجميع يصرحون على مسمع مني بما يحلو لهم. لماذا لا يحذرون أن أسمعهم؟ أسمع الكثير عبر الظواية.
كلام أفراد عائلتي و أقاربهم الذين لم أعرف بعضهم سابقا و أصدقاؤهم. غريب هو الإنسان كيف يتبدل و يتلون. حديث الشخص إلى شخص آخر ليس هو حديثه إلى اثنين ثم إلى ثلاثة. كلما زاد عدد المتحدثين زاد هامش الكتمان و قلت الصراحة. طبعا هم لم يعودوا يفكرون أنني قد أكون مستمعا إليهم. كيف ينتبهون و قد استطاعوا أن ينسوا أن الله يسمعهم.
مشكل الصحراء و مشكل البطالة و مشكل فلسطين و العراق و أفغانستان و مشاكل الشباب و الطفولة و صراع الثقافات و الأجيال. أنا إنسان واع بعصري رغم سكوني. هل أعود يوما إلى الدنيا لأحدث أهلها عن أحداثها؟ لقد تعلمت الكثير في رحلة الصبر على التهميش و الإقصاء. لقد كانت لي آراء كثيرة قد تكون مفيدة لكن عجز المجتمع عن تمكيني من البوح بها.
حين أثرثر لنفسي أتخيل بعض الذين أعرف أصواتهم. أحدثهم بما يفهمون لأني أعلم ما يفهمون. و دائما أقنعهم بآرائي و أهون عليهم. لكني أسمعهم بعد ذلك عبر الظواية و أدرك أنهم نسوا ما حدثتهم به. أو لعلهم لم يقتنعوا حقا.
لكني سأستمر في ثرثرتي التي لا أملك غيرها. و كل ينفق مما عنده.