عودة لهاته البوابة الغالية التي أصابها و أصاب أهلها التكاسل و التثاقل ، آثرت أن أشارككم بموضوع هو فقرة من بحث أنجته خلال الدراسة الجامعية ، و أنا أرجوا من خلال نشره في هاته البوابة أن أسبر آرائكم و أن أقحمكم في المجال التاريخي ، و لا أعتقد أنه شيء غريب عنكم خصوصا أنه يتطرق لتاريخ مجال البيضان .
بعد أن وضعت حرب شرببه أوزارها ، و حرب شرببة كنت قد تطرقت لها في موضوع منفصل في نفس البوابة ، و بعد أن وضع كل فريق السلاح ، [ قبائل حسان الوافدة و قبائل صنهاجة المتوطنة ] كانت مجموعة من الأمور قد تغيرت ، أو وجب تغييرها ، إذ أن الحرب دائما ما تعطي منتصرا واحدا ، الشيء الذي حصل مع بني حسان على حساب صنهاجة ، هذا المصطلح الذي سيختفي بعد الحرب لتظهر بعده لفظتي الزوايا و زناكة ، فما هي المتغيرات السياسية و الإجتماعية التي أحدثتها حرب شرببة ؟
على المستوى الاجتماعي أول تحول وقع هو أن الانتساب لحسان أصبح من دواعي الفخر و الاعتزاز ، إذ الملاحظ هو لجوء القبائل الصنهاجية لإعادة كتابة مشجرات أنسابها لأن النسب ،الجديد أصبح هو النسب الأكثر حظوة ، كما ترسخت عقب ذلك اللغة العربية ، لأن ثقافة الغالب غالبا ما تصبح ثقافة المغلوب مع مرور الوقت ، فأصبحت اللهجة الحسانية هي وسيلة التعبير الأولى و الوحيدة من واد نون شمالا إلى نهر السنغال جنوبا . إذن يمكن اعتبار اللهجة الحسانية مظهرا من تمظهرات السيطرة العربية على المجال البيضاني .
كما ظهر إلى الوجود تراتبية اجتماعية احتفظت من خلالها كل مجموعة بميزات ميزتها عن المجموعة الأخرى ، البعض جعل هذا التقسيم يستند إلى معطيات عرقية ، و البعض الآخر إلى معطيات و ركائز وظيفية ، على كل حال وجد في المجتمع البيضاني طبقات اجتماعية عنت كل واحدة بوظيفة معينة ، محافظة على أكبر قدر ممكن من الانسجام مع الطبقة الأخرى .
المحاربين (لعرب أو حسان ) :
تحمل هذه الفئة مجموعة من الأسماء ، كالعرب أو حسان ، تحتكر هذه الفئة سلطة القوة ، و تعيش على ما تدفعه لها الفئات التابعة ، و أن رزقهم على أسنة رماحهم ، إذ جعلوها ديدنا يربون عليها أطفالهم ، و هذه الفئة نفسها تنقسم هي الأخرى إلى تراتبية ، إذ أن المغافرة يحتلون الصدارة داخل هذه الفئة ، مما تجدر الإشارة له أيضا هو أن هذه الفئة لم تبق محصورة في إطار عرقي ضيق ، إذ نجد قبائل ذات أصول صنهاجية تنتمي لهذه الفئة ، و تضم بذلك هذه الفئة بعض قبائل لمتونة كإداوعيش ، و تنقسم حسان بأرض شنقيط إلى أربعة أقسام و هم أولاد يحيى بن عثمان سكان أدرار ، , إدوعيش سكان تكانت ، و الترارزة سكان القبلة ، و البراكنة . نكتفي بهذا القدر فيما يخص المحاربين نظرا لكون الإمارات التي سوف يؤسسونها ستكون موضوع مبحثين قادمين.
* الزوايا :
بتسكين الزاي ، يقول صاحب الوسيط معرفا هذه الفئة ، و هو المطلع على خبايا الأمور و تاريخ المنطقة ، بحكم الانتماء " إن لفظة الزوايا صار علما على قبائل كثيرة ، أغلب سيرها في تعلم العلم و تعليمه ، و تعمير الأرض بحفر الآبار و تسيير القوافل ، و قرى الضيف " ، و يبدوا هذا الدور الذي تلعبه هذه الفئة أكثر نبلا ، و شرف لا يضاهيه شرف ، إذ كانوا حملة العلم و الدين في هذه البلاد قاطبة قديما و حديثا ، لا ينازعهم في ذلك طائفة من طوائفها و يضيف صاحب الوسيط في ذكر شيمهم " و يحمد من أمرهم عدم شهادة الزور ، و التحرج من مال الغير، و التعليم و الإمامة يكونان مجانا عندهم " ، و مما يعاب عليهم حسب نفس المصدر " و من العجيب أن الزوايا على ديانتهم و علمهم ، أهل حقد على بعضهم ، فترى القبيلة إذا وقعت حرب بينهما لا تنمحي أضغانها من الصدور ، بخلاف حسان فإن الطائفتين المتحاربتين منهم بعد قليل صارتا يدا واحدة " .
قد تكون هذه الشهادة من الحقائق التاريخية التي منعت الزوايا من التكتل من جديد بعد مغامرة ناصر الدين ، و من بين قبائل الزوايا نجد قبيلة كنتة صاحبة المكانة المميزة داخل فئة الزوايا ، لما لعبته كما أبرزنا من أدوار هامة تروم خدمة مشروع ديني محض . مما تجدر الإشارة إليه و عند القيام بنظرة خاطفة للمجال البيضاني و تموقع الإمارات المغفرية به أو المتغفرة ، نلحظ أن قبائل الزوايا المتواجدة تحت نفوذها ضعيفة ، و غير ذات شوكة ، بينما إذا تتبعنا مناطق نفوذ قبائل الزوايا القوية كتجكانت و كنتة ، نجدها غير خاضعة لنفوذ أي إمارة مغفرية و لعل السبب يرجع إلى " أن زوايا القبلة ( الواقعة تحت النفوذ المغفري ) أفرغوا جذوة حدتهم في معارك شرببة و معارك أخرى دارت بينهم ، فكانوا بعدئذ حروبهم جدال و مناظرة ، لقد حلت الكلمة عندهم محل الفعل العنيف" ، و بالتالي يمكن أن نميز في فئة الزوايا بين نموذجين اثنين من القبائل ، فئة خضعت للمغافرة و أصبحت تحت حكمهم بحكم الموقع الجغرافي ، مسلمة لهم بالسلطة السياسية ، و فئة لم تخضع لحسان بل كانت الند للند ، تتمسك بدورها الديني ، لكنها في نفس الوقت مستعدة للدفاع عن نفسها أمام أي طارئ ، و هي الفئة التي تنتمي لها قبيلة كنتة ، قبيلة الشيخ أحمد البكاي .
شكل إذن المحاربين و الزوايا رأس المجتمع البيضاني ، إن على المستوى السياسي أو الإجتماعي، مستمدين ذلك من القوة العسكرية بالنسبة لحسان ، و القوة الدينية بالنسبة للزوايا ، مما جعل باقي الفئات تقع تحت سيطرة هاتين الفئتين .
•الفئات الغارمة :
و تتكون من مجموعة من الفئات بداية بزناكة و هم أحسن حظا ، و أرفع شأنا من باقي الفئات ، و يبدوا من الاسم أنه اللفظة القديمة لصنهاجة ، تهتم هذه الفئة بالإنتاج الفلاحي و الحيواني ، وهي تحت سلطة الفئتين السابقتين ، زوايا أو حسان ، و لعل المثل الشعبي الحساني " ازناكي ألا تحت الركاب و لا تحت كتاب " يلخص إلى حد كبير الوضعية التي كانت تعيشها هذه الفئة ، فهذه الفئة تحت حماية قبيلة زاوية ، أو تحت هيبة قبيلة حسانية ، إذ سخرتها الفئتين السابقتين للرعاية و تنمية الماشية ، و ينقسمون ( زناكة ) إلى ثلاث طبقات أعلاها اللحمة التي تفيد كثرة المال و حسن الخلق ، و أزناكة التي يعتبر أصحابها أقل مالا و أقل خلقا ، أما الرعيان فهم غير المالكين و كل عملهم بالأجرة ، و يمكن القول أن هذه الفئة شكلت عصب الحياة الاقتصادية لما تقدمه من خدمات للمجتمع البيضاني ، و داخل الفئات الغارمة نجد كذلك أربع فئات أخرى إلى جانب زناكة، منهم الحراطين الذين يهتمون بالمجال الزراعي على وجه الخصوص ، و هم سود البشرة لكنهم ليسوا عبيد ، أو يمكن أن يكونوا عبيد محررين ، لم تحض هذه الفئة بما تستحقه من الدراسة ، إذ يمكن أن تفك الغموض حول الأصول السوداء للمنطقة ، خصوصا و أن هذه الفئة تنتشر شمالا إلى حدود واحات المغرب الشرقي ، فهل هذه الفئة تمثل العنصر الزنجي الذي نزح منذ فترات متقدمة من التاريخ و عمر هذه الأرض ، إلى حدود وصول القبائل الأمازيغية و بعدها القبائل العربية ؟ ، مما جعلها تنكمش و تنحصر في الواحات و المناطق الفلاحية ، قد يحتاج هذا لسنوات من البحث و التنقيب .
و تأتي خلف فئة الحراطين فئة المعلمين و هم الصناع التقليديون ، المهتمون بالصناعة ، مثل صنع الأواني المنزلية ، و الأدوات الحربية ، كما تأتي فئة إكاون ، و هم مطربوا و شعراء حسان، و خلف هؤلاء تأتي فئة العبيد ، و إسمهم يغني عن الشرح و التفصيل .
أتمنى من خلال هذا الموضوع الصغير أن أكون قد نفضت الغبار من على رف التاريخ ، و أكون بذلك أيضا قد أنعشت ذاكرتكم التاريخية فلكل منا جانب تاريخي ، و إن إستند إلى روايات العجائز .